سادسًا- ومن أسرار هذه السورة، التي لا يكاد يُفطَن إليها أن النفي فيها أتى بأداة النفي { لا }، ولم يأت بالأداة { ما }، مع أن نفي الحاضر الدائم والمستمر بـ{ ما } أولى من نفيه بـ{ لا }، وأكثر منه استعمالاً. والسر في ذلك أن { ما } لا ينفى بها في الكلام إلا ما بعدها، وأنها لا تكون إلا جوابًا عن الدعوى. أما { لا } فينفى بها في أكثر الكلام ما قبلها، فيكون ما بعدها في حكم الوجوب، وأنها تكون جوابًا عن السؤال، وتكون ردًّا لكلام سبق. هذا من جهة.. ومن جهة أخرى فإن { لا }، إذا نفي بها المضارع، فإنها تدل على نفيه نفيًا شاملاً مستغرقًا لكل جزء من أجزاء الزمن، بدون قرينة تصحبها؛ كقوله تعالى:﴿ عَالِمِ الغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾(سبأ: 3). أما { ما } فلا تدل على نفي المضارع على سبيل الاستغراق والشمول إلا بوجود قرينة تصحبها، وهي{ من } الاستغراقية؛ كقوله تعالى:﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾(يونس: 61).
وبهذا تكون هذه السورة العظيمة قد اشتملت على النفي المحض. وهذا هو خاصيَّتها؛ فإنها سورة براءةٍ من الشرك- كما جاء في وصفها- فالمقصود الأعظم منها هو البراءة المطلوبة بين الموحدين، والمشركين؛ ولهذا جيء بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، مع أنها متضمنَّة للإثبات صريحًا، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:﴿ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ براءة محضة. وقوله:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ إثبات أن له عليه الصلاة والسلام معبودًا، يعبده، وأنهم بريئون من عبادته، فتضمَّنت بذلك النفي، والإثبات، وطابقت قول إمام الحنفاء سيدنا إبراهيم عليه السلام:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾(الزخرف: 26- 27)، وطابقت قول الفئة الموحِّدين:﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾(الكهف: 16)، فانتظمت بذلك حقيقة { لا إله إلا الله }.
ولهذا- كما قال ابن قيِّم الجوزيَّة- كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن هذه السورة العظيمة بسورة ( قل هو الله أحد )، في سنة الفجر، وسنة المغرب؛ فإن هاتين السورتين ( سورتي الإخلاص ) قد اشتملتا على نوعَيْ التوحيد، الذي لا نجاة للعبد، ولا فلاح له إلا بهما:
النوع الأول: توحيد العلم والاعتقاد، المتضمِّن تنزيه الله تعالى عمَّا لا يليق به، من الشرك والكفر، والولد والوالد، وأنه إله أحد صمد، لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكن له كفوًا أحد، فيكون له مِثْل. ومع هذا فقد اجتمعت له جل جلاله صفات الكمال كلها؛ فتضمنَّت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال، ونفي ما لا يليق بجلاله من الشريك أصلاً وفرعًا، وشبهًا ومثلاً.. فهذا هو توحيد العلم والاعتقاد.
والنوع الثاني: توحيد القصد والإرادة؛ وهو أن لا يُعبدَ إلا إياه، فلا يُشرَك به في عبادته سواه، بل يكون وحده هو المعبود. وسورة ( الكافرون ) مشتملة على هذا النوع من نوعيْ التوحيد، فتضمنت بذلك السورتان نوعيْ التوحيد، وأخلصتا له.
سابعًا- ومن أسرار هذه السورة العظيمة ما تضمنه قوله تعالى في ختامها من التأكيد:﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾.
والسؤال هنا: هل أفاد هذا معنى زائدًا على ما تقدَّم ؟ والجواب: أن النفي في الآيات السابقة أفاد براءته صلى الله عليه وسلم من معبوديهم، وأنه لا يتصور منه، ولا ينبغي له أن يعبدهم، وهم أيضًا لا يكونون عابدين لمعبوده؛ كما أفاد إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر، الذي هو حظهم ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو، وغيره أرضًا، فقال له: لا تدخل في حدِّي، ولا أدخل في حدِّك، لك أرضك، ولي أرضي. فتضمَّنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أن المؤمنين، والكافرين اقتسموا حظهم فيما بينهم، فأصاب المؤمنين التوحيدُ والإيمان، فهو نصيبهم، الذي اختصوا به، لا يشركهم الكافرون فيه. وأصاب الكافرين الشركُ بالله تعالى والكفر به، فهو نصيبهم، الذي اختصوا به، لا يشركهم المؤمنون فيه.
ثم إن في تقديم حظ الكافرين ونصيبهم في هذه الآية على حظ المؤمنين ونصيبهم، وتقديم ما يختص به المؤمنون على ما يختص به الكافرون في أول السورة، من أسرار البيان، وبديع الخطاب ما لا يدركه إلا فرسان البلاغة وأربابها، وبيان ذلك:
أن السورة، لما اقتضت البراءة، واقتسام دينَيْ التوحيد، والشرك بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الكافرين، ورضي كلٌّ بقسمه، وكان المحق هو صاحب القسمة، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون، وأنه استولى على القسم الأشرف، والحظ الأعظم، أراد أن يشعرهم بسوء اختيارهم، فقدم قسمهم على قسمه، تهكمًا بهم، ونداءً على سوء اختيارهم، فكان ذلك- كما يقول ابن قيِّم الجوزيَّة- بمنزلة من اقتسم هو، وغيره سُمًَّا، وشفاءً، فرضي مقاسمه بالسمِّ؛ فإنه يقول له: لا تشاركني في قسمي، ولا أشاركك في قسمك. لك قسمك، ولي قسمي !
ولهذا كان تقديم قوله تعالى:﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ﴾ على قوله:﴿ وَلِيَ دِينِ ﴾ هنا أبلغ وأحسن؛ وكأنه يقول: هذا هو قسمكم، الذي آثرتموه بالتقديم، وزعمتم أنه أشرف القسمين، وأحقهما بالتقديم !!
وذكر ابن قيِّم الجوزيَّة وجهًا آخر، وهو: أن مقصود السورة براءة النبي صلى الله عليه وسلم من دينهم، ومعبودهم- هذا هو لبُّها ومغزاها- وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكمِّلاً لبراءته، ومحققًا لها. فلما كان المقصود براءته من دينهم، بدأ به في أول السورة، ثم جاء قوله تعالى:﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ﴾ مطابقًا لهذا المعنى. أي: لا أشارككم في دينكم، ولا أوافقكم عليه؛ بل هو دين تختصون به أنتم، فطابق آخر السورة أولها.
فتأمل هذه الأسرار البديعة المعجزة، واللطائف الدقيقة، التي تشهد أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد، وأنه الأعلى في الفصاحة، والبلاغة، والبيان !
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية- حلــــب
وبهذا تكون هذه السورة العظيمة قد اشتملت على النفي المحض. وهذا هو خاصيَّتها؛ فإنها سورة براءةٍ من الشرك- كما جاء في وصفها- فالمقصود الأعظم منها هو البراءة المطلوبة بين الموحدين، والمشركين؛ ولهذا جيء بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، مع أنها متضمنَّة للإثبات صريحًا، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:﴿ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ براءة محضة. وقوله:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ إثبات أن له عليه الصلاة والسلام معبودًا، يعبده، وأنهم بريئون من عبادته، فتضمَّنت بذلك النفي، والإثبات، وطابقت قول إمام الحنفاء سيدنا إبراهيم عليه السلام:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾(الزخرف: 26- 27)، وطابقت قول الفئة الموحِّدين:﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾(الكهف: 16)، فانتظمت بذلك حقيقة { لا إله إلا الله }.
ولهذا- كما قال ابن قيِّم الجوزيَّة- كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن هذه السورة العظيمة بسورة ( قل هو الله أحد )، في سنة الفجر، وسنة المغرب؛ فإن هاتين السورتين ( سورتي الإخلاص ) قد اشتملتا على نوعَيْ التوحيد، الذي لا نجاة للعبد، ولا فلاح له إلا بهما:
النوع الأول: توحيد العلم والاعتقاد، المتضمِّن تنزيه الله تعالى عمَّا لا يليق به، من الشرك والكفر، والولد والوالد، وأنه إله أحد صمد، لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكن له كفوًا أحد، فيكون له مِثْل. ومع هذا فقد اجتمعت له جل جلاله صفات الكمال كلها؛ فتضمنَّت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال، ونفي ما لا يليق بجلاله من الشريك أصلاً وفرعًا، وشبهًا ومثلاً.. فهذا هو توحيد العلم والاعتقاد.
والنوع الثاني: توحيد القصد والإرادة؛ وهو أن لا يُعبدَ إلا إياه، فلا يُشرَك به في عبادته سواه، بل يكون وحده هو المعبود. وسورة ( الكافرون ) مشتملة على هذا النوع من نوعيْ التوحيد، فتضمنت بذلك السورتان نوعيْ التوحيد، وأخلصتا له.
سابعًا- ومن أسرار هذه السورة العظيمة ما تضمنه قوله تعالى في ختامها من التأكيد:﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾.
والسؤال هنا: هل أفاد هذا معنى زائدًا على ما تقدَّم ؟ والجواب: أن النفي في الآيات السابقة أفاد براءته صلى الله عليه وسلم من معبوديهم، وأنه لا يتصور منه، ولا ينبغي له أن يعبدهم، وهم أيضًا لا يكونون عابدين لمعبوده؛ كما أفاد إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر، الذي هو حظهم ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو، وغيره أرضًا، فقال له: لا تدخل في حدِّي، ولا أدخل في حدِّك، لك أرضك، ولي أرضي. فتضمَّنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أن المؤمنين، والكافرين اقتسموا حظهم فيما بينهم، فأصاب المؤمنين التوحيدُ والإيمان، فهو نصيبهم، الذي اختصوا به، لا يشركهم الكافرون فيه. وأصاب الكافرين الشركُ بالله تعالى والكفر به، فهو نصيبهم، الذي اختصوا به، لا يشركهم المؤمنون فيه.
ثم إن في تقديم حظ الكافرين ونصيبهم في هذه الآية على حظ المؤمنين ونصيبهم، وتقديم ما يختص به المؤمنون على ما يختص به الكافرون في أول السورة، من أسرار البيان، وبديع الخطاب ما لا يدركه إلا فرسان البلاغة وأربابها، وبيان ذلك:
أن السورة، لما اقتضت البراءة، واقتسام دينَيْ التوحيد، والشرك بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الكافرين، ورضي كلٌّ بقسمه، وكان المحق هو صاحب القسمة، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون، وأنه استولى على القسم الأشرف، والحظ الأعظم، أراد أن يشعرهم بسوء اختيارهم، فقدم قسمهم على قسمه، تهكمًا بهم، ونداءً على سوء اختيارهم، فكان ذلك- كما يقول ابن قيِّم الجوزيَّة- بمنزلة من اقتسم هو، وغيره سُمًَّا، وشفاءً، فرضي مقاسمه بالسمِّ؛ فإنه يقول له: لا تشاركني في قسمي، ولا أشاركك في قسمك. لك قسمك، ولي قسمي !
ولهذا كان تقديم قوله تعالى:﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ﴾ على قوله:﴿ وَلِيَ دِينِ ﴾ هنا أبلغ وأحسن؛ وكأنه يقول: هذا هو قسمكم، الذي آثرتموه بالتقديم، وزعمتم أنه أشرف القسمين، وأحقهما بالتقديم !!
وذكر ابن قيِّم الجوزيَّة وجهًا آخر، وهو: أن مقصود السورة براءة النبي صلى الله عليه وسلم من دينهم، ومعبودهم- هذا هو لبُّها ومغزاها- وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكمِّلاً لبراءته، ومحققًا لها. فلما كان المقصود براءته من دينهم، بدأ به في أول السورة، ثم جاء قوله تعالى:﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ﴾ مطابقًا لهذا المعنى. أي: لا أشارككم في دينكم، ولا أوافقكم عليه؛ بل هو دين تختصون به أنتم، فطابق آخر السورة أولها.
فتأمل هذه الأسرار البديعة المعجزة، واللطائف الدقيقة، التي تشهد أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد، وأنه الأعلى في الفصاحة، والبلاغة، والبيان !
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية- حلــــب
الأحد يونيو 16, 2013 7:21 pm من طرف سلوى
» إيقاف العادات السيئة يبدأ من الدماغ
الأحد يونيو 16, 2013 7:13 pm من طرف سلوى
» دراستان تنصحان بالتعامل المبكر مع مشكلة زيادة الوزن لدى الاطفال
الإثنين نوفمبر 05, 2012 2:00 am من طرف مريم
» انتبه لغذائك بعد سن الأربعين
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:58 am من طرف مريم
» الكشف عن طريقة لإيقاف تدهور العضلات مع تقدم العمر
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:50 am من طرف مريم
» الوزن الزائد والسمنة يرتبطان بسوء أورام البروستات
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:11 am من طرف مريم
» الاختلاء بامرأة غريبة.. يصيب الرجل بأمراض خطيرة!
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:03 am من طرف مريم
» زيت الزيتون يعزّز صحة خلايا البشرة
الإثنين نوفمبر 05, 2012 12:16 am من طرف مريم
» مستحضرات التجميل.. تتسبب بسن اليأس المبكر
الإثنين نوفمبر 05, 2012 12:08 am من طرف مريم