التاريخ هو ذاكرة البشرية، وكما قيل أمة بلا تاريخ، أمة بلا ذاكرة. وقال الشاعر : إقرءوا التاريخ كم فيه العبر**ضل قوم ليس يدرون الخبر
وقد كان لنا جلسات في مقالات سابقة حول استراتيجيات النجاح، وسنطالع في هذه المقالة بعض أخبار الناجحين عبر حقب زمنية مختلفة لنتأمل في مدى مطابقة هذه الاستراتيجة لظروف النجاح التي عاشوها. وسيكون منهجنا في اختيار القصص عشوائيا ورائدنا البحث عن أسباب النجاح بغض النظر عن قيم واعتقادات الشخصية. فبالتعرف على استراتيجيات الناجحين نستطيع بعد ذلك تنزيلها في سياقات حياتية مختلفة ومتنوعة تتناسب مع قيم واعتقادات كل إنسان بحسبه.
[img][/img]
ولنبدأ رحلتنا هذه مع محمد بن موسى الخوارزمي. وهو أحد العلماء المسلمين في عصر النهضة والازدهار. فهو مبتدع علم الجبر وواضع أسسه، وهو واضع علم اللوغاريتمات وإليه ينسب. حيث الأصل في هذه التسمية منقول عن الإنجليزية ( algorithm ) وهي الترجمة الانجليزية لاسم الخوارزمي. استطاع الخوارزمي أن يصل إلى العديد من الابتكارات في مجال الجبر والخوارزميات وذلك بعد أن استوعب علوم من سبقه من الإغريق والرومان والهنود والفرس في هذا المجال ليكون بذلك حصيلته العلمية التي يستمد منها مرونته في البحث والتحليل. ولولا بحثه المستمر وصبره الدائم على ذلك ( العمل مع إرهاف الحواس ) لما وصل إلى كل ما وصل إليه. فقد عاش حياته كلها بين الكتب والمكتبات، وقد ترأس بيت الحكمة وهي الجامعة التي أنشأها المأمون في زمانه لتكون منارا للعلم. وقد استطاع الوصول لذلك بعد أن ( حدد هدفه ) وسار إليه، فأبواب العلم كثيرة ، وقد اختار منها الحساب، فدرسه وأنشأ فيه الفروع الجديدة مثل الجبر الذي يعتبر من أعظم ابداعاته وذلك من خلال كتابه "الجبر والمقابلة".
شخصيتنا الثانية في هذه الرحلة شخصية سياسية عسكرية عالية الهمة، إنها شخصية عبدالرحمن الداخل والمعروف بصقر قريش. تمثلث في هذه الشخصية جميع عناصر استراتيجية النجاح الثلاثة ولذلك خلد التاريخ اسمه. بعد سقوط دولة الأمويين في الشام سنة 132 هـ، وقتل أكثر رجالها هرب عبدالرحمن الداخل من مصر إلى برقة وأقام بها خمس سنين. ثم رحل إلى مليلة بالمغرب سنة 137 هـ وكان يطمح إلى الاستيلاء على ملك أفريقية ولكنه رأى ذلك بعيد المنال فوجه همه إلى الأندلس. في مثل ظروف عبدالرحمن تلك يقنع الكثير من الناس بسلامة الرأس، ولكن عبدالرحمن كان يطمح بالملك فقد كان له هدفا محددا. وقد عمل كل مايستطيع للوصول إلى هدفه واستمر في مراقبة الوضع وجمع المعلومات والتنقل من مكان إلى آخر حتى وصل إلى الأندلس واستغل الصراع القائم بين اليمنية والمضرية ودعا لنفسه حتى تكون لديه جيش عظيم قاتل به متولي الأندلس يومئذ حتى دانت له بجميع مدنها واستقر له الملك. ولم يقنع بذلك بل استمر في توطيد أركان الدولة وتعزيز جيشها ووجه همه بعد ذلك في غزو النصارى. إذن فقد كان دائب العمل لتحقيق هدفه مع إرهاف حسه لجمع المعلومات. وكان لدى صقر قريش رصيد هائل من الخبرة تكسبه المرونة بحيث يجرب وسيلة تلو وسيلة حتى يصل غلى هدفه. لقد كان هدفه الملك ولما رأى صعوبة ذلك في أفريقية لم يجد مانعا من التحول إلى الأندلس، وهكذا استعمل العديد من الوسائل لجمع الناس حوله من الدعوة لنفسه واللعب على الخلافات العرقية ثم القتال. كان الخليفة المنصور العباسي ( وهو من المعاصرين لصقر قريش ) يقول عنه : ( ذاك صقر قريش، دخل الغرب وقد قتل قومه، فلم يزل يضرب العدنانية بالقحطانية حتى ملك ). توفي سنة 172 هـ، وعاش ستين سنة منها 33 سنة ملكا على الأندلس.
دعونا نخرج من رحاب العلم والسياسة إلى رحاب العلم التجريبي والكشوفات العلمية. شخصيتنا التالية لطالب ياباني يدعى أوساهير، بعثته حكومته للدراسة في ألمانيا. يقول أوساهير : لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني الذي ذهبت لأدرس عليه في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شىء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم، كيف أصنع محركا صغير ( الهدف ). كنت أعرف بأن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى نموذج "موديل" هو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفت كيف تصنع النموذج وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها، وبدلا من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل، أو مركز تدريب عملي، أخذوا يعطونني كتبا لأقرأها، وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك، أيا كانت قوته وكأنني أمام لغز لا يحل، وفي ذات يوم، قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع ( إرهاف الحواس مع العمل )، كان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي، وجدت في المعرض محركا قوة حصانين ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك وكان ثقيلا جدا وذهبت به إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة وجعلت أنظر إليه، كأنني أنظر إلى تاج من الجوهر، وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوربا، لو استطعت أن أصنع محركا كهذا لغيرت تاريخ اليابان، وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى، مغناطيس كحدوة الحصان، وأسلاك، وأذرع رافعة، وعجلات ، وتروس وما إلى ذلك،لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم شغلته فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو نموذج الصناعة الأوربية، وبحثت في رفوف الكتب التي عندي ، حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات وأخذت ورقا كثيرا، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل، رسمت المحرك، بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمل أجزاءه، ثم جعلت أفككه، قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورقة بغاية الدقة، وأعطيتها رقما، وشيئا فشيئا فككته كله، ثم أعدت تركيبه، وشغلته فاشتغل، كاد قلبي أن يقف من الفرح، استغرقت العملية ثلاثة ايام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل.
وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسنا ما فعلت، الآن لا بد أن أختبرك، سآتيك بمحرك متعطل، وعليك أن تفككه، وتكشف موضع الخطأ وتصححه، وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل وكلفتني هذه العملية عشرة أيام عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاثا من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد.
بعد ذلك قال رئيس البعثه . . وكان بمثابة الكاهن يتولى قيادتي روحيا: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك ثم تركبها حتى تصبح محركا، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس، والألمنيوم، بدلا من أن أعد رسالة الدكتوراة كما أراد مني أساتذتي الألمان، تحولت إلى عامل ألبس بذلة زرقاء وأقف صاغرا إلى جانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة ساموراي، ولكنني كنت أخدم اليابان وفي سبيل اليابان يهون كل شىء. قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة.
وعلم الميكادو "الحاكم الياباني" بأمري فأرسل لي من ماله الخاص، خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة، وأدوات وآلات، وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت، فوضعت راتبي وكل ما ادخرته، وعندما وصلت إلى ناجازاكي قيل لي: إن الميكادو يريد أن يراني، قلت : لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشيء مصنع محركات كاملا، استغرق ذلك 9 سنوات، وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات ( صنع في اليابان )، قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ودخل الميكادو وانحنينا نحييه وابتسم وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة، هكذا ملكنا "الموديل" وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوربا إلى اليابان ونقلنا اليابان إلى الغرب. لعل عنصر المرونة واضحة في مفاصل هذه القصة العجيبة التي شكلت الخطوات الأولى في طريق اليابان نحو العالم الصناعي والإقتصادي الحديث.
نكتفى بهذه القصص الثلاث والتي حرصت على أن تكون من مجالات مختلفة لأبين أن النجاح يمكن تحقيقه في أي مجال إذا توفرت عناصر استراتيجية النجاح الثلاثة : تحديد الهدف، والعمل مع إرهاف الحواس، والمرونة. وإلى اللقاء قريبا مع مقال آخر.
[img][/img]
الأحد يونيو 16, 2013 7:21 pm من طرف سلوى
» إيقاف العادات السيئة يبدأ من الدماغ
الأحد يونيو 16, 2013 7:13 pm من طرف سلوى
» دراستان تنصحان بالتعامل المبكر مع مشكلة زيادة الوزن لدى الاطفال
الإثنين نوفمبر 05, 2012 2:00 am من طرف مريم
» انتبه لغذائك بعد سن الأربعين
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:58 am من طرف مريم
» الكشف عن طريقة لإيقاف تدهور العضلات مع تقدم العمر
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:50 am من طرف مريم
» الوزن الزائد والسمنة يرتبطان بسوء أورام البروستات
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:11 am من طرف مريم
» الاختلاء بامرأة غريبة.. يصيب الرجل بأمراض خطيرة!
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:03 am من طرف مريم
» زيت الزيتون يعزّز صحة خلايا البشرة
الإثنين نوفمبر 05, 2012 12:16 am من طرف مريم
» مستحضرات التجميل.. تتسبب بسن اليأس المبكر
الإثنين نوفمبر 05, 2012 12:08 am من طرف مريم