مقدمة .
إذا كـــان الوجود البشري في منطقة مصر وسوريا يعود بحسب التنقيبات الأثرية إلى مليون سنة خلت، فإن الحضارة العربية تعود في بدايتها إلى هذا التاريخ تماماً.
فعلى قاعدة أن الأداة الأولى التي صنعها الإنسان القديم تعبرّ عن بدء الحضارة الإنسانية، فإن هذا ينسحب على الإنسان القديم الذي جاء إلى سورية من أفريقيا، حاملاً حضارته وثقافته، التي تنتمي إلى الإنسان الصانع أولاً. ثم اعتباراً من 1.5 مليون سنة سوف تنتمي إلى حضارة وثقافة الإنسان المنتصب، الذي خلف الإنسان الصانع وجاء إلى بلاد الشام من أفريقيا، ليبدأ بتأسيس ثقافته وحضارته التي سوف تنطلق من مليون سنة، وتتواصل تباعاً حتى العصر الحالي. وما نعنيه هنا في مجال الثقافة سوف يتبع المساق الأنثروبولوجي لأن الإنسان الأول في سورية لم يترك سوى أدواته وآثاره العمرانية وما إلى هنالك في غياب لغة مدونة أو وثيقة مكتوبة.
ولسوف ننتظر متابعة مسيرة الإنسان في المشرق العربي على مدى مليون عام إلا ثلاثة آلاف سنة حتى نصل إلى بدايات عصر الكتابة. مما يعطي انطباعاً على أن الكتابة واختراعها جاءت بزمن حديث نسبياً حسب تأريخ وجود الإنسان في المشرق العربي.
وعلى هذا سوف نتابع خط التطور الثقافي , عند الإنسان العربي القديم وفق مناحي حياته كافة، تبدأ من نمط الحياة والعيش، مروراً باختراعاته البدائية, من أدوات وأبنية وصولاً إلى طقوسه وشعائره ونمط حياته وتفكيره، في نظره إلى الحياة وتفاعله مع البيئة الطبيعية ومجاله الحيوي الطبيعي.
ووفق هذا المنحى لابد أن نجري مقاربة، بين تطور بنيته الدماغية وتطور سلوكه تبعاً لذلك. فبالإضافة إلى وعي مسألة عامل البيئة والمجال الحيوي الطبيعي، الذي قدم للمجتمعات الأولى الإمكانات والمحرضات، التي ساهمت في تطور البنية الدماغية لديه، ما انعكس بالتالي على تفاعله الايجابي مع البيئة، فاستطاع الإنسان آنذاك استغلال الطبيعة لصالح تطوير حياته وأنظمته الاقتصادية ـــ الاجتماعية، وأدى هذا إلى تطور في حياته الروحية والذهنية ...
نبدأ بإلقاء الضوء على الحضارات في المشرق العربي القديم .
حضارة الكنعانيين
هم أقدم الأقوام الذين استقروا في منطقة فلسطين وترجع حضارة الكنعانيين الى عصور موغلة في القدم فمنذ مرحلة العصر الحديث التي تعود الى 4000-8000 ق.م بدات هذه الحضارة تنمو في مختلف المجالات الاقتصادية و السياسية والفكرية وتتقدم في مجال التمدن وكان الكنعانيون اول من اكتشف النحاس الطري ثم اهتدوا الى الجمع بين النحاس و القصدير في انتاج البرونز الذي ساعدهم في تطوير ادواتهم الصناعية والحرفية وبذلك كانوا السباقين في استخدام صناعة التعدين مما اعطاهم ادوات واسلحة فتاكة وقد أصبح استعمال البرونز شائعا في المدن الكنعانية منذ اواسط الالف الثالث ق.م وبداوا يستعملون الحديد منذ اواخر القرن الثاني عشر ق.م ويتجلى لنا مدى تقدم صناعة المعادن في بلاد كنعان مما اورده الفراعنة المصريون في وصف الغنائم التي اخدوها من المدن الكنعانية اثناء فتوحاتهم للشرق . وكانت الكروم و التين من اهم المزروعات القديمة في كنعان وتشير مدونات تحوتمس الثالث الى خصوبة ارض كنعان مؤكدة ان النبيذ عند الكنعانيين كان موجود ا بكثرة تفوق الماء . وقد تقدم لدى الكنعانيين عدا فن الصناعة وصناعة العاج والزجاج و النسيج الصوفي و القطني و صناعة الاصباغ ولاسيما القرمز و الارجوان , وقد اشتهر الكنعانيون بما ابتكروه من وسائل الدفاع عن مدنهم فقد كرسوا طاقاتهم وجهودهم في سبيل اتقان الأساليب الحربية التي لازمتهم طيلة حياتهم بسبب النزاعات والخصومات المستمرة بين دويلات المدن الكنعانية المنتشرة في ارجاء البلاد وبسبب الغزوات التي يشنها الفاتحون من خارج البلاد ومن وسائل التي برعوا فيها انشاء القلاع وما يرافقها من تحصينات دفاعية ولحاجتهم الماء في فترات الحصار فقد قاموا باعمال هندسية ضخمة لايصال الماء الى الحصن الذي شيده اليبوسيون (وهم فرع من القبائل الكنعانية ) سكان اورشليم (يبوس ) الاصليون على الهضبة الشرقية من مدينة القدس حاليا وقد سميت المدينة باسمهم (يبوس )واصبحت هذه التسمية مرادفة لاورشليم مدينة اليبوسيين .وقد اقتبس الكنعانيون فن البناء من البابليين وخاصة بناء الاقواس والكنعانيون هم الذين اخترعوا السفينة واهتدوا الى عمل الزجاج ووضعوا (نظام الحساب) واعظم عمل قام به الكنعانيون للحضارة هو اختراعهم الابجدية الهجائية التي تعتبر من اهم الاختراعات في العصور القديمة بل في تاريخ الحضارة البشرية .وباختصار يمكننا القول ان الكنعانيين العرب الذين هاجروا من الجزيرة العربية منذ اكثر من 5000عام ق.م ضربوا بسهم وافر في المدينة واشتهروا ببناء المدن المحصنة واستعمال العجلات الحربية والصناعات الحديدية وعرفوا ازدهار التجارة وانتعاش الزراعة واقاموا مع جيرانهم علاقات اقتصادية وتجارية ومن ابرز سلعهم الاخشاب والزيت واستخدموا الدولاب في صناعة الفخار والخزف والجدير بالذكر ان النقوش المصرية المكتوبة على جدران معبد الكرنك ذكرت اسماء 119 مدينة من مدنهم لذا لا عجب اذا وصفت فلسطين في التاريخ القديم بانها بلاد الخيرات التي تدر لبنا وعسلا .
حضارة الفينيقيين
جاء الفينيقيون في الأصل من لبنان الذي هاجروا إليه في شبه الجزيرة العربية قبل ذلك وكانوا منظمين ضمن مدن كان أشهرها مدينة صور التي نرى معالمها الرومانية الآن، وكان أسهل الطرق وأكثرها نفعاً ليزيدوا احتكاكهم بالشعوب الأخرى ويزيدوا ثراءهم هو البحر الأبيض المتوسط، لذا أصبحوا بحارة بارزين وتجاراً أذكياء وصاروا أفضل من الجميع في هذين الأمرين، واستطاعوا من خلال رحلاتهم أن يتعرفوا على شعوب متطورة وأخرى بدائية إضافةً إلى المنتوجات التي كانت تلك الشعوب ترغب بالحصول عليها والمقايضة بها.
والفينيقيون شعب سامي استوطن لبنان في القرن 28 قبل الميلاد وامتزج بشعوب ما قبل التاريخ . انتشروا على ساحل المتوسط اوغاريت ( راس شمرا ) وجبل الكرمل وأنشأوا مدنا اصبحت دولا مستقلة اهمها : جبيل و صور و صيدا و بيروت و أرواد . ارتبطوا بعلاقات وثيقة مع الفراعنة منذ الألف الثالث قبل الميلاد . تمكنوا بفضل سيادة صور من مد نفوذهم التجاري حتى حماة ودمشق وأسسوا على شواطئ المتوسط المصارف والمتاجر والمستعمرات المصرفية في كل مكان وبلغوا اسبانيا بحثا عن الفضة والقصدير .
كذلك شيد الفينيقيون مراكز هامة على الشاطئ الإفريقي اهمها قرطاجة و سبراطة ، وعلى الشاطئ الأوربي شيدوا ملقة و قادس و مالطة . ازدهرت صناعاتهم المحلية كالصوف المصبوغ بالارجوان والفخار وادوات الزينة والتبرج . اكتشفوا الابجدية في اوغاريت وطوروها في بيبلس ( جبيل ) .
بدأ نفوذهم يذبل عندما اصطدموا بالاشوريين الذين تمكنوا من السيطرة عليهم فسقطت مدنهم الواحدة تلو الأخرى تحت حكم الأشوريين بالرغم من مقاومتهم التي امتدت مئات السنين . تعاقب على بلادهم بعد ذلك المصريون ثم الفرس فاليونان عام 333 قبل الميلاد ، ثم الرومان عام 64 قبل الميلاد . كانت ديانتهم ذات صلة بديانة السومريين الاقدمين التي تقوم على تأليه القوى الطبيعية . اهم آلهتهم ، وفي لغتهم البعل والبعلة ، عشتروت وهي الالهة الأم ربة الحب والخصب والحرب و هداد إله العواصف . خلف الفينيقيون وراءهم الى جانب مقدرتهم التجارية آثارا هندسية رائعة كالهياكل والاسوار والقبور والنواويس والرسوم الناتئة والتماثيل ، وآثارا فنية كالادوات والأواني النحاسية والعاجية ، ويرجع اليهم الفضل في ادخال الحروف الابجدية الى اوربا .
وبما أن الفينيقيين كانوا تجاراً وبحارة منذ الألف الثاني قبل الميلاد، فإنهم بدأوا بتأسيس المستودعات والموانئ والمستوطنات لينشئوا شبكة من الطرقات تلامس أطراف بلاد مجاورة مثل مصر واليونان والمستعمرات اليونانية في جنوب شبه الجزيرة الإيطالية إضافة إلى قرطاجة في شمال أفريقيا.
كما أنهم وصلوا إلى سردينيا وشواطئ إسبانيا من جهة البحر المتوسط والمحيط الأطلسي كما توجهوا جنوباً على طول الشاطئ حتى السنغال وشمالاً نحو إنكلترا وإيرلندا، إن قيام نظامٍ يشمل مئات المستعمرات ويتكون من آلاف السفن لا بد أنه كان يعتمد على مهارات تنظيمية كبيرة.
لقد أمضى علماء الآثار سنين عديدة يفكرون بالطريقة التي كان تمكن الفينيقيون بواستطها من التواصل مع بعضهم البعض في تلك الأزمنة الغابرة وكيف كانوا ينظمون المستودعات ويتاجرون بأنواع كثيرة من البضائع.
لقد كان اكتشاف هذا الناووس للملك الفينيقي "أحيرام" الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد هو الذي مكن علماء الآثار من فهم الأسباب وراء تلك المهارات التنظيمية وما تراه محفوراً على الناووس هو مثال على أقدم كتابة بالأبجدية لكونها مؤلفة من حروف وليست رسوماً كالهيروغليفية المصرية.
فالفينيقيون كانوا أول من اخترع الأبجدية وهذا كان عاملاً ضرورياً لتأسيس شبكة تجارية واسعة، فأول استعمال للأبجدية كان للتعرف على أسماء البضائع ودفع أثمان الموجودات.
وكانوا يضعون على اليمين رسمين مصريين في اللغة الهيروغليفية وعلى اليسار حرفين من الأبجدية الفينيقية، فالعلوي رمز للحرف "م" أما السفلي فهو رمز لحرف"هـ"، وهكذا كان هناك انتقال من المفاهيم التي كانت تمثلها الهيروغليفية التي كانت تحتاج إلى تفسير إلى نظام لغوي ثابت لا يتغير من حيث المعنى لقارئه أياً كان.
وأصبح الفينيقيون في القرن الخامس قبل الميلاد الحكام الوحيدين لخطوط التجارة البحرية كما أصبح البحر المتوسط مستودعاً كبيراً لهم حيث سادت رايتهم، وربما كانت أول مثال على مفهوم العولمة قبل المسيح عليه السلام، لقد كان البحارة مثل "عيلام"، القوة وراء هذه الإمبراطورية الاقتصادية حيث استعملوا خبراتهم في البحار وفي الأراضي الأجنبية إضافة إلى معرفتهم بفن التجارة.
مثل أي تاجر ناجح كان "عيلام وهو قائد فينيقي في القرن ال5قبل الميلاد" يحمل سفينته بالسلع الثمينة قبل الشروع برحلته الطويلة وكانت السلعة شجر الأرز الأسطوري من لبنان، خشب رائع لبناء سفن الشحن القوية والسفن الحربية، وكان "عيلام" يشتري الخشب من مدينة بعلبك الواقعة في الجبال التي كانت تشكل الجانب الخلفي للمدن الفينيقية في لبنان، أما في العصور الهيلينية، فكانت تعرف مدينة بعلبك بـ"هليوبوليس" أي مدينة الشمس.
وبعد دراسة معاني هذه الصلبان المعقوفة وأدلة أخرى مثل ألوان الأعمدة تمكن علماء الآثار من اكتشاف أن المعبد الضخم الذي كان يحتل جزءاً كبيراً من المدينة كان قد بني تكريساً لإله الشمس الباطل والذي أخذت المدينة اسمه "بعل"
يمكن حل اللغز عندما نربط بين الأعمدة والاتجاهات الأربعة، فكانت الأعمدة الداكنة من جهة الغرب أما الأعمدة الفاتحة فمن جهة الشرق، فكانت الأعمدة بذلك تمثل الحياة والموت أي شروق وغروب الشمس.
ها نحن نرى رسماً لجزءٍ محجوب من بناء إله الشمس المزعوم الذي يعود تاريخه إلى عام ستين بعد الميلاد، وكانت المنطقة تضم أربعة وخمسين عموداً بعلو واحد وعشرين متراً وبقطر مترين.
ولنعد إلى دليلنا عيلام، فبعد تحميل جذوع أشجار الأرز على عربات فإنه كان يعود إلى الشاطئ حيث تنتظره سفينته.
إن المصادر السابقة التي لم تسلم من التبديل والتحريف تذكر على لسان حزقائيل أن جبيل المدينة الفينيقية التي تقع في لبنان كانت أكبر حوض للسفن في العالم القديم، وعبور البحار لم يكن أمراً سهلاً حتى بواسطة أفضل السفن لذا كان على عيلام أن يكون كريماً مع الآلهة المزعومة على ضوء الصعوبات التي كانت عادةً تنتظره.
وقد تم واكتشاف بقايا سفن تجارية في جبيل ومدن فينيقية أخرى، وكانت سفينة عيلام التجارية بطول عشرين متراً وعرض خمسة أمتار لكي تتسع لكمية كبيرة من شجر الأرز وكميات من الأقمشة المزخرفة الملونة بالأحمر الأرجواني التي كانت تصبغ بلون ثابت يتعذر إزالته كان يؤخذ من صدفة الموركس، حتى أن الفينيقيين كانوا قد أخذوا اسمهم من تلك الأقمشة، فوينكس المشتقة من كلمة "فوين" اليونانية وتعني اللون الأحمر.
وكان عيلام يقدم لليونان خشب الأرز لبناء سفنهم والقماش الأرجواني ليحصل بالمقابل على الفخاريات وأشياء أخرى من جميع أنحاء اليونان، كما أن الفينيقيين كانوا ينقلون البضائع لحساب طرف ثالث كما نقول اليوم، فكان من الممكن أن يكون عيلام قد حمل تماثيل يونانية مثل هذا إضافة إلى البرونزيات التي من صنع المستعمرات اليونانية في جنوب إيطاليا بناءً على طلب مواطن فينيقي غني في مستعمرة بعيدة.
فلقد وجدت خلال الحفريات في مستعمرة فينيقية تماثيل مثل هذا التمثال البرونزي لشاب إغريقي وقد صنع في المستعمرات اليونانية في جنوب إيطاليا أو مثل تمثال موشيا الشابة، لقد بقيت هذه التماثيل مدفونة لعصور في مستعمرة موتيا الفينيقية في صقلية التي نرى الآن حوضها الجاف الذي بقي محفوظاً وسليماً لألف عام، إن التماثيل تدل على مستوى التجارة الفينيقية في منطقة البحر المتوسط والتبادلات التجارية التي أسست تفاعلاً ثقافياً حقيقياً.
كان الفينيقيون بحارة مغامرين قامت حضارتهم في لبنان.وقد أسس الفينيقيون إمبراطورية تجارية على امتداد البحر المتوسط في الألفية الأولى قبل الميلاد, كشفت دراسة حديثة الأثر الجيني الذي ورثوه لأبناء العصر الحديث.
حضارة بلاد الرافدين
بدأ فجر الحضارة في العراق بحدود سنة 5000 قبل الميلاد وانتهى بالحقبة الزمنية التي ابتدع فيها الإنسان العراقي الكتابة لأول مرة في تاريخ الإنسانية في الربع الأخير من الألف الرابع قبل الميلاد. وإن نشوء الحضارة الناضجة في بلاد الرافدين قد سار بخطوات ثابتة وعلى مراحل وبأطوار متعاقبة. عرفت تلك الأطوار في العراق للمختصين المحدثين بأسماء المدن والقرى والمواقع التي ظهرت فيها لأول مرة, ومدن الطور الأقدم هي: (حسونة) ثم (سامراء) و (حلف) و (العبيد) و (الوركاء) و أخيرا (جمدة نصر).
لقد شهد العراق خلال هذه الأطوار اتساع الزراعة و بداية الحياة الحضرية و نشوء أولى المدن. وعرف بناة الحضارة أيضا فن التعدين وابتدعوا دولاب الخزاف وصنعوا الآجر المفخور والعربة ذات العجلة وكذلك المحراث فضلا عن السفن الشراعية. وعرف في أوائل تلك الأطوار أيضا فن النحت, وظهرت كذلك المباني العامة كالمعابد حيث كثرت وازدادت أهميتها منذ طور (العبيد). وعرف طور الوركاء (3500 ق.م.) بالعهد الشبيه بالكتابي, ومن المعروف أن الكتابة قد أرسيت قواعدها تماما خلال الطور الذي أعقبه وهو (جمدة نصر) في حدود سنة 3000 ق.م.
أولاً: عصر فجر السلالات
ثم بدأ عصر فجر السلالات في العراق في حوالي سنة 2800 ق .م. واستمر لمدة ستة قرون والذي يعرف أيضا بالعصر السومري القديم أو بعصر دويلات المدن حيث لم تتوحد البلاد بعد تحت مملكة كبيرة واحدة. ويقسم العلماء هذه الحقبة الزمنية من تاريخ العراق إلى ثلاثة عصور هي على التوالي:
فجر السلالات الأول ( 2800 –2700 ق.م.)
فجر السلالات الثاني (2700 02600 ق.م.)
فجر السلالات الثالث (2600 – 2400 ق.م.)
من الأمور المتفق عليها بين غالبية العلماء المختصين في العصر الحاضر أن السومريين هم سكان العراق الأصليون، وأنهم الذين كانوا يعرفون بأصحاب حضارة العبيد في وسط وجنوب العراق وكانت أراضيهم تمتد جنوبا إلى جزيرة دلمون (البحرين) في العصر الحاضر قبل أن ترتفع مناسيب الخليج العربي ليصل إلى حدوده الحالية.
ولغة السومريين, وهم أصحاب أقدم حضارة أصيلة متطوّرة في العالم, من اللغات التي تعرف بالملتصقة Agglutinative. من خصائص الإلصاق فيها أنه كثيرا ما يدمج مفردتينن لتصبحا كلمة واحدة يستند معناها إلى معاني الكلمات الداخلة في تركيبها, مثل (لوكال) أي الملك المكونة من (لو) أي الرجل و (كال) أي العظيم, و (إي-كال) تعني القصر أو الهيكل مكونة من كلمة (إي) وهي البيت و(كال) العظيم. ثم أن الجمل فيها تتألف أيضا بطريقة إلصاق الضمائر والأدوات إلى جذر الفعل بحيث يصير الجميع كلمة واحدة.
لقد قسم علماء الآثار عصر فجر السلالات إلى ثلاثة أطوار: الأول ( 2800 –2700 ق.م.) والثاني (2700 02600 ق.م.) والثالث
(2600 – 2400 ق.م.). إن لكل من هذه الأطوار الثلاثة خصائصها المميزة. ومع ذلك يمكن القول عموما بأن فن العمارة قد قطع شأوا بعيدا في هذا العصر وبخاصة في بناء القصور والمعابد فظهرت العقود لأول مرة في البناء وكذلك القبوات كوسيلة في التسقيف. وتقدم فن التعدين وسبك المعادن, وقطع فن النحت شأوا بعيدا من التقدم.
لقد نضجت الكتابة وانتشر استعمالها في العصر السومري فدونت بها في عصر فجر السلالات السجلات الرسمية وأعمال الملوك والأمراء وعلاقتهم بغيرهم من الحكام. وكذلك شؤون الناس العامة كالمعاملات التجارية والأحوال الشخصية والمراسلات والآداب والأساطير فضلا عن الشؤون الدينية والعبادات.
ثانياً: الحكم الأكدي
انتهى عهد فجر السلالات بقيام سرجون الأكدي (2371-2316 ق.م.) بتوحيد العراق في مملكة واحدة. كان سرجون من الأكديين وهم فرع من الأقوام التي نزحت من الوطن الأم شبه جزيرة العرب إلى العراق ربما في أوائل الألف الثالث قبل الميلاد أو قبل ذلك بقليل. وليس من المستبعد أن الأكديين قد عاشوا جنبا إلى جنب مع السومريين منذ أقدم العصور وعرف القسم الأوسط والجنوبي من العراق منذ ذلك الزمن باسم بلاد (سومر وأكد).
حكم مؤسس السلالة الأكدية سرجون خمسة وخمسين عاما أدخل خلالها الكثير من الإصلاحات على نظام الحكم والجيش بما في ذلك تطوير أساليب الحرب والسلاح. وكذلك حصل تقدم عظيم في العمارة والفنون بعامة التي تميزت في العصر الأكدي بالقوة والحيوية والحركة. ويعد (نرام - سين) أقوى ملوك السلالة لأاكدية الذي حكم زهاء أربعين عاما.
عّم الاضطراب في المملكة أواخر العهد الأكدي, فقد حكم بعد نرام - سين ملوك ضعاف مما شجع الأقوام الجبلية وهم الكوتيون, الذين عرفوا في النصوص المسمارية القديمة بأعداء الآلهة, على غزو بلاد (سومر وأكد). إن حكمهم الذي دام حوالي مائة سنة كان عهدا مظلما كادت أن تنقطع فيه عنا أخبار العراق القديم. وقد عوض عن ذلك ازدهار الحضارة في جنوبي العراق وبخاصة في مدينة (لكش) وما يجاورها. وقد اشتهر من بين الأمراء السومريين في أواخر هذا العهد أمير أو ملك اسمه (جودية) الذي عرف بتماثيله الكثيرة التي وصلتنا والذي عمل على إحياء الآداب السومرية وتشييد العديد من المعابد الفخمة.
ثالثاً: الحكم السومري
ثارت على الكوتيين مدينة (الوركاء) بقيادة أميرها السومري (أوتو –حيكال) الذي لقّب نفسه بملك (سومر وأكد) وأهاب بأهل البلاد لحرب الطغاة الأجانب, فالتّفت حوله المدن وتمكن من القضاء على جموع الكوتيين الكبيرة وخلص البلاد منهم.
انتقل الحكم السومري بعد ذلك إلى مدينة (أور) وتكونت فيها سلالة عرفت بسلالة (أور الثالثة) أسسها الملك (أور- نمو) الذي تعد أيامه من عهود العراق المجيدة وآخر عهد في حياة السومريين السياسية (2113-2006ق.م.). لقد استطاع ملوك هذه السلالة الخمسة أن يعيدوا إنشاء إمبراطورية واسعة على غرار لإامبراطورية الأكدية شملت جزءا كبيرا من أقاليم الشرق الأدنى. وانتشرت مع التجارة والفتوح حضارة العراق القديم تماما كما كان عليه الحال في العصر الأكدي. لقد اشتهر ملوك هذه السلالة بأعمالهم العمرانية الفذّة وامتازت دولتهم بالتنظيم وحسن الإدارة في الداخل والخارج وأصبحت العاصمة (أور) في زمنهم قبلة الشرق القديم ليس من النواحي العمرانية والفنية والاقتصادية فحسب بل إنهم سنّوا الشرائع بحسب العرف الاجتماعي و وحّدوا الشؤون القضائية في البلاد.
رابعاً: العصر البابلي القديم
وفي أوائل الألف الثاني قبل الميلاد قامت في العراق أسرة حاكمة جديدة عرفت بسلالة بابل الأولى (1894 – 1595ق.م.) اشتهرت بملكها السادس حمورابي (1728 – 1686ق.م.) الذي جمعت في شخصه خصالا فذة جعلت منه القائد والسياسي والمصلح والمشرع فاستطاع بهذه الخصال أن يوحّد البلاد. ثم وقعت حرب ضروس بينه وبين الدخلاء العيلاميين أظهر خلالها حمورابي من حسن التدبير والحزم ما مكّنه من تمزيق جموعهم شر ممزق. ومدّ فتوحه بعد ذلك إلى شمالي بلاد الرافدين وإلى جهات الهلال الخصيب الأخرى. ومن أعماله المهمة سنّ شريعة واحدة تسري أحكامها في جميع أنحاء المملكة عرفت بقانون حمورابي التي تعد من أولى الشرائع المتكاملة في العالم حيث تجمع بين القانونين المدني والعقوبات فضلا عن الأحوال الشخصية.
إن أهم ما تمّيز به العصر البابلي القديم اتساع المدن وكثرتها, كما حدث تطوّر مهم في العلوم والمعارف البشرية حيث انتقلت من أطوارها العملية إلى طور التدوين والبحث بحيث يصح أن نعد بداية ظهور العلوم البشرية الحقة كانت في هذا العصر. ليس هذا فحسب بل إن الحضارة من بلاد الرافدين قد أخذت طريقها في العصر البابلي القديم إلى جميع أنحاء المشرق وإلى أطراف العالم القصية.
خامساً: العصر البابلي الوسيط
ولقد غزت العراق في أواخر العصر البابلي القديم أقوام جاءت من الشرق أو من الشمال الشرقي عرفوا بالكشيين. أسسوا سلالة حاكمة جديدة دام حكمها زهاء خمسة قرون. وقد عرف هذا العهد بالعصر البابلي الوسيط الذي يعد من العصور المظلمة في العراق. لم يخلف لنا الكشيون وثائق أو سجلات تاريخية بلغتهم الأصلية وإنما استعملوا لغة بلاد بابل. ويبدو أنهم قد تخلّوا عن ديانتهم التي كانوا عليها ليعتنقوا الديانة البابلية. وقد أسسوا في منتصف عهدهم عاصمة جديدة قرب بغداد الحالية عرفت باسم (دور- كوريكالزو) أي مدينة الملك الكشي كوريكالزو.
الأشوريون
وصادف قيام السلالة الكشّية نمو المملكة الآشورية في القسم الشمالي من العراق. فبدؤوا ينازعون الكشيين زعامة البلاد السياسية. والآشوريون فرع من الأقوام الجزرية التي هاجرت في الأصل من شبه جزيرة العرب. وهناك نظرية أخرى مفادها أنهم جاؤا من جنوب العراق من أرض بابل وحلّوا في شمالي بلاد الرافدين في زمن لعله في العهد الأكدي ومما يدعم ذلك أنهم يتكلمون بلهجة من اللهجات البابلية. ويرى غالبية المختصين أن اسمهم مشتق من اسم معبودهم الإله (آشور). و يمكن وضع تاريخ الآشوريين في ثلاثة عهود: القديم والوسيط والحديث.
العهد الآشوري القديم
وتدخل فيه حقب طويلة لاسيما إذا أدمجنا فيه عصور ما قبل التاريخ. لقد بدأ الآشوريون في هذا العهد ببناء مملكة قوية موحدة مستقلة, ظهر منهم ملوك أقوياء مثل (إيلو – شوما) الذي عاصر مؤسس سلالة بابل الأولى وكذلك شمشي أدد الأول (1814 – 1782 ق.م.) الذي بلغت المملكة في زمنه من القوة ما مكّنها من فرض سلطانها على القسم الشمالي من بلاد بابل.
ودأب الآشوريون على تنمية كيانهم السياسي, تعرضوا فيه إلى سلسلة من الامتحانات والمصاعب بسبب ضغط الدول والأقوام التي كانت تجاورهم, خرجوا من كل ذلك أشداء أقوياء إذ خلقت منهم قوة عسكرية رهيبة فرضت سلطانها على شعوب العالم القديم لعدة قرون تلت. ويعد شلمنصر الأول (1266 – 1243ق.م.) من أعظم ملوك هذا العهد سيما في حقل التوسع والفتوح الخارجية بعد أن توطدت شؤون المملكة الداخلية في عهده.
ولقد تدهورت الأوضاع الآشورية في أواسط القرن الثامن قبل الميلاد انتهت بثورة قامت بها مدينة (كالح) الآشورية على الملك (أشور – نراري) الخامس, فقتل وتولى زمام الأمور تيجلاتبليزر الثالث (745-727ق.م.) الذي بدأ عهدا جديدا في تاريخ الآشوريين تكونت فيه آخر وأعظم إمبراطورية آشورية حيث صارت فيه مجددا سيدة الشرق القديم, وكان من أعظم إنجازاتها توحيد بلاد بابل وآشور في مملكة واحدة.
سادساً: العهد البابلي الحديث
آخر العهود العراقية الزاهرة في العصور القديمة (626-539ق.م.). ويعد حكم نبوخذنصر الثاني (604-562ق.م.) بحق من العهود المجيدة في التاريخ البشري عموما وفترة انتعاش قوية عاشتها الحضارة البابلية, فلم تسجل الكتابات التي خلفها هذا الملك إلا أخبار البناء والتعمير في جميع مدن العراق المهمة. من أعماله العمرانية الرئيسة كان بناء الزقورة وتشييد عدد كبير من المعابد الفخمة في بابل. وكان من جملة إنجازاته في هذا الميدان أيضا إقامة شارع رائع عرف بشارع الموكب ومدخل مهيب ضخم يدعى بباب عشتار, يقع وراء هذا الباب قصره الفخم بجنائنه المعلّقة الذي عرف في المصادر اليونانية بإحدى عجائب الدنيا السبع.
وفي زمنه أعلنت دولة (يهودا) الصغيرة العصيان مع عدد من الدويلات الشامية الصغيرة الأخرى بتحريض من الفراعنة التي لم تكترث لنصائح النبي (ارميا) وتحذير ملكها (يوهوياقين) بوخامة العاقبة. فجرد نبوختنصر حملة تأديبية لم تقو (يهودا) على مقاومتها فسقطت العاصمة (أورشليم) في عام 596 ق.م. فرحّل قسم من سكانها ومعهم ملكهم عن فلسطين. ونصّب نبختنصر بدلا عنه عمه (صدقيا). وبعد بضع سنوات اشتركت (يهودا) في عصيان جديد وبتحريض من الفراعنة أيضا الذين حاولوا استرجاع مكانتهم في سوريا وفلسطين. لقد كان غضب الملك البابلي في هذه المرة عظيما فدمّر المدينة وأحرق الهيكل ورحّل من سكانها عددا كبيرا جدا إلى العراق واضعا بذلك حدا لمملكة يهودا. لقد وقع ذلك الحدث بسنة 594 ق.م.
خلف هذا الملك العظيم عدد من الملوك الضعاف وبخاصة آخرهم نبونائيد (555-539 ق.م.) فتدهورت الأوضاع في البلاد خلال عهودهم وانتهت تلك الإمبراطورية العظيمة بسقوط بابل على يد (كورش) ملك الإخمينيين بسنة 539 ق.م. وليعفى على حضارة العراق وتطمر علومه وأمجاده لقرون طويلة تلت.
سابعاً: إنجازات حضارة بلاد الرافدين القديمة
إذا انتقلنا إلى نشوء أولى الحضارات في العراق القديم يمكن القول إنها كانت بجهود العراقيين الأوائل في تفاعلهم مع البيئة الطبيعية في وسط وجنوبي العراق. فمن المعروف أن الزراعة تعتمد في هذا الإقليم دوما على الإرواء الصناعي الذي كان لا يتم إلا بالسيطرة على الأنهار وإقامة السدود وتجفيف الأهوار. إن الري -كما هو معروف- كان الدعامة الأساس في الحياة الاقتصادية لهذا الإقليم وعلى ذلك فقد تجلّت عبقرية الإنسان هنا بأجلى مظاهرها في الإرواء الصناعي وإن نشوء أول حضارة في بلاد الرافدين قد تحقق بلا أدنى ريب بعد أن سيطر سكان هذا الإقليم على الأنهار فيها وذلك عن طريق إقامة السدود وحفر الأنهار والجداول وتجفيف الأهوار, فذللوا البيئة الطبيعية واستغلوا إمكاناتها العظمى. ليس هذا فقط بل استغل العراقيون الأقدمون ارتفاع مناسيب نهر الفرات قياسا إلى دجلة فشقوا أنهارا عظيمة من الفرات إلى دجلة لتروي أراضي واسعة كانت بأحوج ما تكون إلى الماء. لقد طغت أخبار شق الأنهار والجداول على غيرها من أخبار الملوك وأعمالهم. إن حفر أو شق نهر جديد كان يعد بحد ذاته حدثا هاما يؤرخ به الكتبة الرسميون للدولة الأحداث الجسام.
نتيجة لكل هذا نلاحظ أن أول شيء يلفت النظر في العراق شهرة البلاد الزراعية إلى الأزمان المتأخرة, حتى أن الكتاب اليونان -مثل هيرودوتس- قد تحدثوا عن وفرة المحاصيل الزراعية في هذا الإقليم, وهو ما يذكرنا بتسمية المؤرخين والبلدانيين العرب لأرض العراق بـ (السواد) لكثرة زرعها وخضرتها. ومن الأمور المتفق عليها إن فن زراعة البساتين نشأ في العراق مما ساعد الإنسان كثيرا على الاستقرار ومن ثمّ نشوء الحضارات المتقدمة وتطوّرها.
والنخلة -على ما يرجح- كانت أقدم وأهم شجرة في تاريخ العراق الزراعي القديم حيث اختص العراق بزراعة النخيل منذ فجر التاريخ. وكانت العادة أن تزرع الفراغات بين النخليل بالأشجار المثمرة الأخرى مثل التين والرمان والتفاح والكروم وغير ذلك. ومايزال يعد أعظم وأوسع مركز لزراعة النخيل في العالم لاسيما المنطقتين الوسطى والجنوبية منه.
وفي سبيل تحقيق الاستقرار والأمن في البلاد, وللحفاظ على هذه المنجزات والمكاسب العظيمة كان من الضروري وجود حكومات قوية مستقرة. وكان الملك في العراق القديم على رأس السلطة حيث عدت سلطته التنفيذية والتشريعية مستمدة بشكل مباشر من الآلهة لحكم البلاد, فهو الذي كان يتولى قيادة الجيش وقت الحرب حيث أن من أولى واجباته المحافظة على حدود الوطن, وكذلك توفير الوسائل الكفيلة التي تساعد البلاد على الرخاء الاقتصادي عن طريق تنفيذ المشاريع الحيوية العامة مثل حفر القنوات والأنهار وبناء المعابد تقرّبا إلى الآلهة. لقد خلّف الكثير من الملوك العراقيين القدماء مآثر كتابية أكدوا فيها ما ذكرناه حتى أن بعضهم قد صوّر نفسه وهو يحمل سلال التراب والآجر رمز قيامه بتنفيذ المشاريع العمرانية الكبرى وبخاصة بناء المعابد تقربا للآلهة. والكثير منهم قنّنوا الشرائع والقوانين في سبيل تنظيم الحياة العامة ونشر العدل بين الرعية.
ومن الأمور المعروفة للجميع أن أولى الشرائع المدّونة في العالم قد ظهرت في العراق القديم, وهناك من الإشارات ما يدل بشكل قاطع على ظهور القوانين المدونة في عصور فجر السلالات. إن الشرائع في العراق القديم لم تكن أولى الجهود البشرية في تنظيم الحياة الاجتماعية فحسب بل إنها دوّنت بأسلوب علمي وبلغة قانونية دقيقة. إنها قوانين بهيئة مواد متسلسلة مقتصرة على الشؤون المدنية لا تتعرض للعبادات في شيء.
وكان من تمسّك سكان العراق الأقدمين باحترام القانون والنظام أن تصوروا الكون كله على هيئة مملكة تحكمها الآلهة يتجلى فيها مبدأ الطاعة وبخاصة طاعة القوانين والسير بموجب أنظمة المجتمع وأعرافه الشفهية والمدونة. وبلغ من تقديرهم لفضيلة الطاعة أنهم تخيّلوا ظهور عهد ذهبي بين البشر في يوم ما تسود فيه الطاعة والنظام وسيادة القانون.
ومن ثمرات الحضارة الناضجة نشوء الصناعات الأولى وكذلك التجارة وبخاصة التجارة الخارجية لجلب المواد الخام التي اعتمدت عليها تلك الصناعات. ومن البديهي أن يصاحب كل ذلك تقدم العلوم والآداب والفلسفة.
وفي العراق القديم بدأت أولى المحاولات الفلسفية الجريئة الخاصة بأصل الكون والوجود والأساس في مكونات المادة. ومن المؤكد أن السومريين قد سبقوا الفلاسفة الإغريق بقولهم بمبدأ العناصر الأربعة الأولية التي عدت أصل جميع الأشياء.
ومن البديهي أن يولي العراقيون القدماء أيضا الأدب الكثير من اهتمامهم. لقد كان شأنه شأن الآداب العالمية القديمة الأخرى يشرك الآلهة في الملاحم والقصص أو الأساطير. أما الشعر السومري والبابلي فقد كان يخضع لفن خاص من النظم والتأليف فهو موزون ولكنه غير مقفى. إنه من النوع المعروف في الوقت الحاضر بالشعر المرسل. وما خلفه لنا العراقيون القدماء من الروائع الأدبية أكثر من أن تحصى, ربما أهمها (ملحمة جلجامش) و (قصة الخليقة) و (قصة الطوفان) وعدد كبير جدا من الأساطير.
وفي باب العلوم الصرفة كالرياضيات مثلا عرف البابليون أسسا مهمة في خواص الأعداد وكذلك في العمليات والطرق والمعادلات الجبرية الأساسية. من ذلك مثلا معادلات الدرجة الأولى بأنواعها المختلفة فضلا عن معادلات الدرجة الثانية والثالثة. لقد اتبعوا في طرق حلها عمليات مدهشة لا تكاد تصدق لتطابقها مع الطرق العلمية الحديثة. ومما يقال اليوم بوجه عام إن الفضل في تقدم الجبر الحديث يعود إلى البابليين والعرب أكثر مما يعود إلى اليونان.
ومن الأمور المتفق عليها أيضا في تاريخ المعارف البشرية أن البابليين هم الذين أسسوا علم الفلك الرياضي، وبدؤوا يدونون ملاحظاتهم وإرصاداتهم أو حساباتهم الفلكية منذ العهد الأكدي، وتقدم هذا العلم إلى درجة كبيرة مذهلة في العهد البابلي القديم. أما معرفتهم بالعلوم الطبيعية مثل علم الكيمياء, على سبيل المثال وبخاصة ما يتعلق منها بخواص المواد وتأثير الحرارة فيها أو العوامل الطبيعية الأخرى فقد بدأت عندهم في وقت مبكر جدا والتي لا سبيل في هذا الملخص من الدخول في تفاصيلها الدقيقة.
الحضارة الفرعونية
بدأت منذ عصور ما قبل التاريخ بنحو مائة ألف سنة ، واعتبر المصريون القدماء ، منذ أواخر العصر الحجري القديم (10آلاف عام قبل الميلاد ) بأنهم أمة قائمة بذاتها وأطلقوا علي أنفسهم أهل مصر أو ناس الأرض
ونشأت مملكتان في مصر إحداهما في الشمال عاصمتها بوتو في غرب الدلتا وشعارها البردي وتعبد الإله حورورمزها الثعبان والأخرى في الجنوب عاصمتها نخن أو الكاب الحالية وشعارها اللوتس وتعبد الإله ست
وقد قامت عدة محاولات في عصر ما قبل التاريخ لتوحيد مملكتي الشمال والجنوب حتي نجح الملك مينا حوالي عام 3200 ق .م في توحيد الشمال والجنوب ، وأنشأ عاصمة الدولة المتحدة عند رأس الدلتا وسماها (القلعة البيضاء) وهي التي عرفت فيما بعد باسم ( منف ) أو(ممفيس ) مؤسسا بذلك أول دولة في التاريخ تظهر كوحدة سياسية لها عاصمة وبها حكومة مركزية وجهاز إداري من جيش وشرطة وتعليم وقضاء
عصر الدولة القديمة 2980 ق. م .- 2475 ق . م تطورت الحضارة المصرية وتبلورت مبادئ الحكومة المركزية ، وشهد عصر هذه الدولة نهضة شاملة في شتي نواحي الحياة ، حيث توصل المصريون إلي الكتابة الهيروغليفية أي ( النقش المقدس ) ، واهتم الملوك بتأمين حدود البلاد ونشطت حركة التجارة بين مصر والسودان . واستقبلت مصر عصراً مجيداً في تاريخها عرف باسم عصر بناة الأهرامات ، وشهد هذا العصر بناء أول هرم (هرم سقارة) ، ومع تطور الزراعة والصناعة استخدم المصريون أول أسطول نهري لنقل منتجاتهم . وبلغت الملاحة البحرية شأنا عظيما وأصبحت حرفة منظمة كغيرها من الحرف الراسخة التي اشتهرت بها مصر القديمة
عصر الدولة الوسطي 2160ق.م .- 1580 ق.م اهتم ملوك الدولة الوسطي بالمشروعات الأكثر نفعا للشعب فازدهرت الزراعة وتطورت المصنوعات اليدوية ، أنتج الفنانون المصريون والمهندسون تراثاً رائعاً انتشر في الأقصر والفيوم وعين شمس . كذلك ازدهر الفن والأدب في هذا العصر ولكن نهاية حكم هذه الدولة شهد غزو الهكسوس واحتلالهم لمصر
عصر الدولة الحديثة 1580ق.م. - 1150ق.م بعد أن تم للملك أحمس الأول القضاء علي الهكسوس وطردهم خارج حدود مصر الشرقية عاد الأمن والاستقرار إلي ربوع البلاد . وبدأت مصر عهداً جديداً هو عهد الدولة الحديثة ، وأدركت مصر أهمية القوة العسكرية لحماية البلاد ، فتم إنشاء جيش قوي لتكوين امبراطورية عظيمة امتدت من نهر الفرات شرقاً إلي الشلال الرابع علي نهر النيل جنوباً. وأصبحت مصر قوة عظمي ، وصارت بذلك امبراطورية عظيمة مترامية الأطراف وأقدم امبراطورية في التاريخ. لقد حاز ملوك وملكات الأسرة الثانية عشرة شهرة عالمية في ميادين السياسة والحرب والثقافة والحضارة والدين .. "أحمس" بطل التحرير .. "امنحوتب الأول" العادل الذي أصدر قانونا بمنع السخرة وبوضع المعايير العادلة للأجور والحوافز .. "تحتمس الأول" المحارب الذي وسع الحدود المصرية شمالا وجنوبا ونشر التعليم وتوسع في فتح المناجم وصناعة التعدين .. "وتحتمس الثاني" المتأنق و"تحتمس الثالث" الامبراطور صاحب العبقرية العسكرية الفذة وأول فاتح عظيم في تاريخ العالم .. و "تحتمس الرابع" الدبلوماسي الذي كان أول من اهتم بتدوين وتسجيل المعاهدات الدولية.. و"امنحوتب الثالث" أغني ملك في العالم القديم والذي فتح المدارس "بيوت الحياة" لنشر التعليم والفنون التشكيلية والتطبيقية .. و"اخناتون" أول الموحدين وأول ملك في تاريخ الانسانية نادي بوحدانية الله خالق كل شئ .. و"توت عنخ آمون" الذي حاز شهرة في العالم المعاصر
ومن أشهر ملكات هذه الأسرة علي سبيل المثال الملكة " اياح حتب" زوجة الملك "سقنن رع" ، والملكة " أحمس نفرتاري " زوجة أحمس الأول ، والملكة "تي" بنت الشعب وزوجة امنحوتب الثالث وأم اخناتون ، والملكة "نفرتيتي" زوجة "اخناتون " والملكة العظيمة "حتشبسوت" التي حكمت مصر قرابة عشرين عاما . وبلغت مصر في عهدها أعلي قمة في الحضارة والعمارة والتجارة الدولية حيث أرسلت البعثة البحرية التجارية والعلمية الي بلاد بونت كذلك شيدت واحدا من أعظم الآثار المعمارية وأكثرها روعة وفخامة وهو معبد "الدير البحري" علي الشاطئ الغربي للنيل في مواجهة الأقصر وهو معبد فريد في تصميمه وليس له مثيل بين معابد العالم القديم كلها
وشهد هذا العصر أيضا ثورة اخناتون الدينية حيث دعا إلي عبادة إله واحد ورمز له بقرص الشمس وأنشأ عاصمة جديدة للبلاد وأسماها "اخيتاتون". وتعرضت مصر منذ حكم الأسرة 21 حتي 28 لاحتلال كل من الآشوريين عام 670 ق.م ثم الفرس حتي انتهي حكم الفراعنة مع الأسرة 30 ودخول الإسكندر الأكبر مصر
فنون الحضارة الفرعونية
العمارة
برع المصريون في فن العمارة وآثارهم الخالدة خير شاهد علي ذلك ففي الدولة القديمة شيدت المصاطب والأهرامات وهي تمثل العمائر الجنائزية ، وأول هرم بني هو هرم زوسر ، ثم هرم ميدوم ، إلا أن أشهرها جميعاً أهرامات الجيزة الثلاث وتمثال أبو الهول وشيدت في عهد الأسرة الرابعة وبلغ عدد الأهرامات التي بنيت لتكون مثوي للفراعنة 97 هرماً . ثم بدأ انتشار المعابد الجنائزية في عصر الدولة الوسطي واهتم ملوك الأسرة الـ 12 بمنطقة الفيوم بأعمال الري فيها ، وأشهر معابد أنشأها ملوك هذه الأسرة معبد اللابرانت أو "قصر التيه" كما سماه الأغريق والذي شيده الملك " أمنمحات الثالث" في هوارة كما شيد القلاع والحصون والأسوار علي حدود مصرالشرقية
ويعتبر عصر الدولة الحديثة أعظم فترة عرفتها أساليب العمارة والصور الجدارية والحرف والفنون الدقيقة التي تظهر علي حوائط بعض المعابد الضخمة المتنوعة التصميمات كالكرنك والأقصر وأبو سمبل
ويعتبر عهد تحتمس الأول نقطة تحول في بقاء الهرم ليكون مقبرة ، ونحت مقابر مختفية في باطن الجبل في البر الغربي بالأقصر تتسم بالغني والجمال في أثاثها الجنائزي ويظهر ذلك بوضوح في مقبرة الملك توت عنخ آمون
وقد عمد فنانو هذه الدولة - للحفاظ علي نقوش الحوائط - إلي استخدام الحفر الغائر والبارز بروزاً بسيطاً حتي لا تتعرض للضياع أو التشويه ، وآخر ما اكتشف من مقابر وادي الملوك مقبرة أبناء رمسيس الثاني التي تعد من أكبرها مساحة وتحتوي علي 15 مومياء . أما المسلات الفرعونية فقد كانت تقام في ازدواج أمام مداخل المعابد وهي منحوتة من الجرانيت ، ومن أجمل أمثلة عمائر عصر الامبراطورية المصرية القديمة معابد آمون وخوفو و الكرنك و الأقصر والرمسيوم و حتشبسوت بالبر الشرقي والمعابد المنحوتة في الصخر مثل أبو سمبل الكبير و أبو سمبل الصغير
وظهرت اتجاهات جديدة في فنون العمارة والفنون التشكيلية والتطبيقية وضحت بصورة واضحة في فن نحت التماثيل الضخمة والصغيرة وزخرفة أعمدة المعابد والنقوش الجدارية
الأدب
تؤكد آثار المصريين براعتهم في الكتابة والأدب ويظهر ذلك واضحاً فيما تركه المصريون من آثار ، ولن ينسي التاريخ فضل المصريين علي الإنسانية في اختراع الكتابة التي سماها الاغريق "بالخط الهيروغليفي" وتتكون الأبجدية الهيروغليفية من 24حرفاً .. واستخدم المصريون القدماء المداد الأسود أو الأحمر في الكتابة علي أوراق البردي . وبرع المصريون في الأدب الديني الذي تناول العقائد الدينية ونظرياتهم عن الحياة الأخري وأسرار الكون والأساطير المختلفة للآلهة والصلوات والأناشيد ومن أقدم أمثلة الأدب الديني "نصوص الأهرامات" و كتاب الموتي
كما برع الأديب المصري القديم في كتابة القصص وحرص علي أن تكون الكلمة أداة توصيل للحكمة وآداب السلوك وظل المصريون حريصين علي رواية تراثهم من الحكم والأمثال وعلي ترديدها بأعيادهم واحتفالاتهم وتقاليدهم
وبذلك كان المصريون من أحرص شعوب العالم علي تسجيل وتدوين تاريخهم والأحداث التي تعرضوا لها في حياتهم وبهذه الخطوة الحضارية ظهر العديدمن الأدباء والحكماء والمثقفين المصريين الذين تركوا لنا أعمالا تدل علي مدي رقي الفكر والثقافة في مصر
في مجال علوم الفلك نجد أن قدماء المصريين قد أقاموا أقدم مرصد في العالم وقبل عصر بناء الأهرامات منذ فترة زمنية حسب الشمس والنجوم حيث أقاموا الشواهد الحجرية ميجاليثات Megaliths. وهي عبارة عن دائرة من الحجر أقيمت منذ 7000 سنة في الصحراء الجنوبية بمصر. قبل إقامة مواقع الميجاليثات بإنجلترا وبريطانيا وأوروبا بألف سنة كموقع ستونهنج الشهيرة
وكان حجر رشيد قد إكتشف عام 1799 إبان الحملة الفرنسية وقد نقش عام 196 ق.م. وعليه ثلاث لغات الهيروغليفية والديموطقية (القبطية ويقصد بها اللغة الحديثة لقدماء المصريين) والإغريقية. وكان وقت اكتشافه لغزا لغويا لايفسر منذ مئات السنين. لأن اللغتين الأولتين كانتا وقتها من اللغات الميتة. حتي جاء العالم الفرنسي جيان فرانسوا شامبليون وفسر هذه اللغات بعد مضاهاتها بالنص الإغريقي ونصوص هيروغليفية أخرى. وهذا يدل علي أن هذه اللغات كانت سائدة إبان حكم البطالمة الإغريق لمصر لأكثر من 150 عاما. وكانت الهيروغليفية لغة دينية متداولة في المعابد واللغة الديموطيقية كانت لغة الكتابة الشعبية والإغريقية لغة الحكام الإغريق. وكان محتوي الكتابة تمجيدا لفرعون مصروإنجازاته الطيبة للكهنة وشعب مصر. وقد كتبه الكهنة ليقرأه العامة والخاصة من كبار المصريين والطبقة الحاكمة. واستطاع شامبليون فك شفرة الهيروغليفية عام 1822 ليفتح أفاق التعرف علي حضارة قدماء المصريين وفك ألغازها وترجمة علومها بعد إحياء لغتهم بعد مواتها عبر القرون.وكانت الهيروغليفية وأبحديتها تدرس لكل من يريد دراسة علوم المصريات.
وفي مصر القديمة كان الملك هو الحاكم المطلق والقائد الروحي والصلة بين الشعب والآلهة. وكان يعاونه الوزير والجهاز الإداري ويتبعه الكهان. وكان الملك قائد الجيش وقواده وكان الجيش جنوده من المصريين قي عمر الخامسه والعشرين حتى اربعين عام. وكان الحكم وراثيا بين الأبناء في معظم الوقت باستثناء حورمحب (1319 ق.م.)الذي كان قائدا ورمسيس الأول الذي خلفه لم يكن من الدم الملكي. وقلما كانت امرأة تحكم مصر ماعدا حتشبسوت التي حكمت في الأسرة 18 بعد وفاة زوجها تحتمس الثاني عام 1479 ق.م. وتقاسمت الحكم مع تحتمس الثالث. وكان المصريون يعتقدون أن مركز الملك إلهي والملك إله. وبعد موته تؤدي له الطقوس ليظل إله. وكان يلقب عادة بمالك وملك الأرضين مصر العليا ومصر السفلي (الدلتا بالشمال والوادي بالجنوب. وكان اقتصاد مصر قوم علي الزراعة معتمدة علي النيل الذي كان يمدمصر بالمياه والمحاصيل المتنوعة كالحبوب ولاسيما الشعير والقمح والفاكهة والخضروات.وممعظم الأراضي الزراعية كانت ملكا للملك والمعابد. وكان الشادوف وسيلة الري بعد انحسار الفيضان. ولقد إكتشفت مومياوات عديدة محفوظة تم العثور عليها في كل أنحاء العالم بكل القارات حيث إتبع التحنيط mummification بكل القارات.و كلمة مومياء أصلها الكلمة الهيروغليفيه "مم"التي تعني شمع أو القار والذي كان يستخدم في عمليات التحنيط. وقد إشتُقت منها لاحقا الكلمه Mummy واانتشرت بعد ذلك إلى اللغات الهندواوروبيه. وهذه الكلمة مومياء تطبق علي كل البقايا البشرية من أنسجة طرية. والتحنيط قد يكون موجودا في كل قارة لكن الطريقة ترتبط بطريقة قدماء المصريين لهذا ينسب إليهم. وكانت أول دراسة للمومياوات كانت في القرن 19. وليس المومياوات المصرية مجرد لفائف من قماش الكتان تلف بها الأجساد الميتة فقط. ولكنها طريقة لوجود بيوت دائمة للأرواح. وهذه طريقة تحايلية علي الموت.
تم بحمد الله
بحث وترتيب الكاتب / هاني جودة
الأحد يونيو 16, 2013 7:21 pm من طرف سلوى
» إيقاف العادات السيئة يبدأ من الدماغ
الأحد يونيو 16, 2013 7:13 pm من طرف سلوى
» دراستان تنصحان بالتعامل المبكر مع مشكلة زيادة الوزن لدى الاطفال
الإثنين نوفمبر 05, 2012 2:00 am من طرف مريم
» انتبه لغذائك بعد سن الأربعين
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:58 am من طرف مريم
» الكشف عن طريقة لإيقاف تدهور العضلات مع تقدم العمر
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:50 am من طرف مريم
» الوزن الزائد والسمنة يرتبطان بسوء أورام البروستات
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:11 am من طرف مريم
» الاختلاء بامرأة غريبة.. يصيب الرجل بأمراض خطيرة!
الإثنين نوفمبر 05, 2012 1:03 am من طرف مريم
» زيت الزيتون يعزّز صحة خلايا البشرة
الإثنين نوفمبر 05, 2012 12:16 am من طرف مريم
» مستحضرات التجميل.. تتسبب بسن اليأس المبكر
الإثنين نوفمبر 05, 2012 12:08 am من طرف مريم